فصل: المسألة الثَّانِيَةُ: (في أن لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة السابعة: [في قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}]:

لا شبهة في أن المراد بقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} والعيلة الفقر.
يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، والمعنى: إن خفتم فقرًا بسبب منع الكفار فسوف يغنيكم الله من فضله وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهًا: الأول: قال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار.
والثاني: قال الحسن: جعل الله ما يوجد من الجزية بدلًا من ذلك.
وقيل: أغناهم بالفيء.
الثالث: قال عكرمة: أنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم.
المسألة الثانية:
قوله: {فُسُوف يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة، وقد وقع الأمر مطابقًا لذلك الخبر فكان معجزة.
ثم قال تعالى: {إِن شَاءَ} ولسائل أن يسأل فيقول: الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود، وجوابه من وجوه الأول: أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب، فيكون الإنسان أبدًا متضرعًا إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات.
الثاني: أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب، كما في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] الثالث: أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] وكلمة {من} تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية: {إِن شَاءَ} المراد منه ذلك التبعيض.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، والله أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ كَمَا يَجِبُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ؛ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ نَجَسًا.
وَالنَّجَاسَةُ فِي الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَجَاسَةُ الْأَعْيَانِ، وَالْآخَرُ نَجَاسَةُ الذُّنُوبِ؛ وَكَذَلِكَ الرِّجْسُ، وَالرِّجْزُ يَنْصَرِفُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّرْعِ؛ قال الله تعالى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ} فَسَمَّاهُمْ رِجْسًا كَمَا سَمَّى الْمُشْرِكِينَ نَجَسًا.
وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} مَنْعَهُمْ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ، إذْ كَانَ عَلَيْنَا تَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ مِنْ الْأَنْجَاسِ وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} قَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا لِحَاجَةٍ مِنْ نَحْوِ الذِّمِّيِّ يَدْخُلُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْخُصُومَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْخُلُ كُلَّ مَسْجِدٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَكَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الْآيَةَ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَادَى: وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ} وَإِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ الْعَيْلَةِ لِانْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ الْحَجُّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعِينَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، ثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْحَجُّ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ كَانَ خَاصًّا فِي ذَلِكَ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْمَسْجِدِ بِهِ دُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ أَنْجَاسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسٍ شَيْءٌ إنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا وَفْدُ ثَقِيفٍ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ، فَأَنْزَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كَوْنَهُمْ أَنْجَاسًا لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُمْ الْمَسْجِدَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ لَا يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ.
وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُشْرِكًا حِينَئِذٍ، وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ تَقْتَضِ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْكُفَّارِ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وَلِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ. قِيلَ: لَهُ: إنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ لِلْحَجِّ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَادَى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لِلْحَجِّ.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ» فَأَبَاحَ دُخُولَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَاجَةِ لَا لِلْحَجِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الذِّمِّيَّ لَهُ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ لِلْحَجِّ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قوله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}: إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَوَقَفَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَلَى جَابِرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ فَيَكُونَ جَابِرٌ قَدْ رَفَعَهُ تَارَةً، وَأَفْتَى بِهَا أُخْرَى.
وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مُشْرِكٌ وَتَلَا قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}؛ قَالَ عَطَاءٌ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْحَرَمُ كُلُّهُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْحَرَمُ كُلُّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ، إذْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَسْجِدِ، وَقال الله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْحَرَمِ نَحَرَ الْبُدْنَ أَجْزَأَهُ، فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الْحَرَمَ كُلَّهُ لِلْحَجِّ، إذْ كَانَ أَكْثَرُ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ مُتَعَلِّقًا بِالْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لِمَا وَصَفْنَا، فَعَبَّرَ عَنْ الْحَرَمِ بِالْمَسْجِدِ، وَعَبَّرَ عَنْ الْحَجِّ بِالْحَرَمِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ هاهنا الْحَرَمُ قوله تعالى: {إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ؛ وَذَكَرَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ.
فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْحَرَمِ، وَإِطْلَاقُهُ تَعَالَى اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ، وَتَرْكَ مُخَالَطَتِهِمْ، إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِاجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ.
وقوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فَإِنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَلَا عَلِيٌّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، وَهُوَ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ بَعْدَهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ.
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ} فَإِنَّ الْعَيْلَةَ الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ إذَا افْتَقَرَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: كَانُوا خَافُوا انْقِطَاعَ الْمَتَاجِرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الْجِزْيَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِإِبْقَاءِ الْمَتَاجِرِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْعَرَبَ، وَأَهْلَ بُلْدَانِ الْعَجَمِ سَيُسْلِمُونَ، وَيَحُجُّونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا يَنَالُونَ مِنْ مَنَافِعِ مَتَاجِرِهِمْ عَنْ حُضُورِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ نَظِيرُ قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} الْآيَةَ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا فِي حَجِّ الْبَيْتِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَأَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} عَمَّا يَنَالُونَ مِنْ الْغِنَى بِحَجِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْغِنَى بِالْمَشِيئَةِ لِمَعْنَيَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ، وَلَا يَبْلُغُ.
هَذَا الْغِنَى الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ، وَالثَّانِي: لِيَنْقَطِعَ الْآمَالُ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، كَمَا قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:

.المسألة الأولى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ لِلتِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الْآيَةَ.
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: كَيْفَ بِمَا نُصِيبُ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ فِي الْمِيرَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في أن لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ]:

لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «نَادِ فِي أَذَانِك أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ».
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ بَعْدَ الْأَذَانِ؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَرَّمَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَ دِينَهُ عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُمْ مُشْرِكٌ.
وَقِيلَ: إذَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْمُشْرِكِينَ مَكَّةَ لِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلِمَ يَبْقَى النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ؟

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}:

اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، أَمَرَ اللَّهَ بِإِبْعَادِهَا، كَمَا أَمَرَ بِإِبْعَادِ الْبَدَنِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَدَثِ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ.
وَقَدْ ذَهِلَتْ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ فَظَنُّوا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ، تَعُمُّ زَوَالَ الْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ إذَا ظَهَرَتْ، حِسِّيٌّ.
وَكَوْنُهَا بِعَيْنِهَا نَجِسَةً حُكْمِيٌّ، وَبَقَاءُ الْمَحِلِّ نَجَسًا بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا حُكْمِيٌّ.
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.